يدور حالياً في واشنطن حوار ذكي حول إحداث هزة في السياسات الأميركية القائمة، وذلك بمد جسور التواصل مع الشعب الإيراني. والمثير للاهتمام أن هذا الحوار ليس مكانه ساحة الانتخابات الرئاسية التي يتعارك فيها كل من المرشحين "جون ماكين" و"باراك أوباما"، إنما مكانه خلف كواليس إدارة بوش نفسها. وهناك يقود بعض كبار مسؤولي وزارة الخارجية وغيرهم، بلورة مقترح يهدف لإنشاء قسم لرعاية المصالح الأميركية في طهران، على غرار ذلك الذي تم إنشاؤه في كوبا منذ عام 1977. ومن المؤكد أن قسماً كهذا لا يتوقع له أن يحظى بأي اعتراف دبلوماسي يذكر، إلا أنه سيفتح قناة مهمة للغاية للتعامل المباشر مع الشعب الإيراني، بل ربما يكون نافذة للتعامل مع النظام الإيراني نفسه في نهاية الأمر. يذكر أن مناقشة هذه الفكرة ربما بدأت منذ ما يقارب العامين، وأنه أصبح ممكناً إقرارها خلال أسابيع فحسب من الآن، على رغم استمرار القلق الذي يبديه بعض المسؤولين من أن تبدو مبادرة كهذه مؤشراً على الضعف الأميركي، حسب إفادة أحد المسؤولين، الذي تحفّظ على ذكر اسمه. ويخشى هؤلاء تأثيرات انطباع كهذا من الجانب الإيراني، على شركاء الولايات المتحدة من المفاوضين الأوروبيين، بل يخشون تأثيره على السياسات الداخلية الأميركية نفسها، بالنظر إلى حدة الخلاف الدائر بين المرشحين الرئاسيين جون ماكين وباراك أوباما، حول مدى حكمة التفاوض مع المسؤولين الإيرانيين. وليس من عجب أن ينفي مسؤولو إدارة بوش الحاليون، الاعتقاد الشائع بأنه سوف تقع على الرئيس الأميركي المقبل، تركة ثقيلة من السياسات الخارجية الخرقاء، التي خلفتها الإدارة الحالية. وضمن هذا النفي، يؤكد كبار مسؤولي الإدارة نجاحهم في إدارة أكثر العلاقات الأميركية-الآسيوية أهمية، أي إقامتهم لمثلث علاقات أميركا- اليابان-الصين. وبالمثل فقد تحسنت علاقات الولايات المتحدة الأميركية بأوروبا منذ ولاية بوش الأولى، وهو ما أكدته جولة بوش الأوروبية الأخيرة. وبالقدر ذاته يبدي القادة في كل من المكسيك وكولومبيا اعتزازاً كبيراً بصداقة بلادهم مع واشنطن، في حين انتقل الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز، المعروف بعدائه السافر لأميركا، إلى خانة الدفاع بدلاً من الهجوم. ثم يصل هؤلاء المسؤولون للاستشهاد ببوادر الاستقرار وبسط الأمن التي بدأت تلوح مؤخراً في العراق، باعتبارها مؤشرات على التفاؤل وليس اليأس من أداء الإدارة في مجال السياسات الخارجية. لكن ومهما تكن السماحة التي ينظر بها المرء إلى المشهد الدولي برمته -وهي سماحة من المستحيل أن تنطبق على واقع الحال في زيمبابوي وإقليم دارفور وروسيا وباكستان وأفغانستان، إلى آخرها من مآس وتحديات كبيرة- فإنه يلزم الاعتراف بأن إيران ظلت نموذجاً للعقبات والمعضلات غير المحلولة. فها نحن نرى نفوذ وكلائها يزداد يوماً إثر الآخر في لبنان وقطاع غزة، بينما يمضي برنامج طهران النووي على قدم وساق. إلى ذلك ارتد التقويم الاستخباراتي الأميركي الأخير عن برامج إيران النووية- وهو التقويم الذي أعطى انطباعاً مضللاً عن تخلي طهران عن طموحاتها النووية الحربية- سهماً على نحر واشنطن وليس مكسباً لها. ولعل هذه هي الحقيقة التي تدفع بعض مسؤولي واشنطن إلى التفكير في مبادرات جديدة، على أمل أن تفضي إلى حل المعضلة الإيرانية. وينفي هؤلاء أن تكون طهران تجسيداً لعملاق جامح تصعب السيطرة عليه. والدليل هو تراجع نفوذها بشكل ملحوظ في العراق مؤخراً، إلى جانب انقسام صفوفها الداخلية، والمصاعب الاقتصادية التي تواجهها. وقال لي المسؤول آنف الذكر:"إنهم لا شك خطرون أذكياء وبارعون جداً في تنسيق وخوض الحروب غير المتكافئة. لكن وعلى رغم ذلك، فإن في اعتقادي أن لهم ثغرات ونقاط ضعف كثيرة، نرى أهمية استغلالها لصالحنا". على أن المرجح أن ترفق واشنطن افتتاحها لقسم رعاية المصالح الأميركية المقترح في طهران، بحزمة من العقوبات الجديدة التي تفرضها على نظامها الحاكم، حرصاً منها على إظهار "العين الحمراء" لحكامها. والمعلوم أن الكثير من المواطنين الإيرانيين يبدون حماساً لإقامة علاقة طبيعية مع أميركا، إلا أنهم لا يجدون منفذاً للوصول المباشر إليها. وفي الوقت نفسه يشكو دبلوماسيو واشنطن من غياب من يمثل أميركا في طهران ليرصد هذا المزاج الشعبي الإيراني وينقله إلى واشنطن. ويقترح هؤلاء الدبلوماسيون إقامة محطة لهذا الغرض، يكون في مقدورها رصد وتوصيل صوت الشارع الإيراني، ومراقبة التطورات السياسية الجارية في طهران، إلى جانب الاهتمام بطلبات تأشيرات الدخول إلى أميركا. وليس مستبعداً أن ترفض طهران طلب إقامة قسم خاص بالمصالح الأميركية في أراضيها، على رغم صعوبة هذا الرفض، بالنظر إلى القسم الخاص برعاية المصالح الإيرانية المقام في شارع ويسكونسن في "جلوفر بارك". لكن وفي حال رفض المسؤولين الإيرانيين إقامة قسم أو مركز كهذا، فإنه ليس في هذا الرفض إلا ما يعزز صورة أميركا دولياً وإقليمياً، في حين يظهر طهران باعتبارها عاصمة يسكنها الخوف من التواصل مع الآخرين. هذا وتنسجم فكرة إقامة هذا القسم المقترح في طهران، مع اتجاه المرشح "الديمقراطي" باراك أوباما، الداعي إلى فتح قنوات حوار مباشر مع الإيرانيين. أما من يخشى أن ينظر مسؤولو طهران إلى المبادرة على أنها مؤشر على تراجع حزم واشنطن في تعاملها مع بلادهم، فإن عليه تجاوز مخاوفه هذه، طالما أن مصدر المبادرة هو القوة وليس الضعف. ــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"